الأطفال في النزاعات المسلّحة مُؤثِّرون وليسوا مجرّد مُتأثّرين!
في ورقتها العلمية، ناقشت هيلين بيرنتس (Helen Berents, 2019) قضيةً طريفةً ومهمّةً، تتعلّق بالأطفال الناجين من النزاعات المسلّحة؛ الذين دوّنوا ذكرياتهم (تجاربهم اليومية، رؤاهم حول العنف، والرعب، والقتل... إلخ) عن الحرب في نصوص سرديّة؛ سواءً أكانوا ضحايا انتُهِكتْ حقوقهم، أم مُجَنَّدِين انتَهكوا حقوقَ أطفال آخرين وأشخاص بالغين، من خلال انضمامهم القسري أو الاختياري إلى صفوف الجماعات المسلَّحة.
اتجهت الورقة إلى نقد الاتجاه الذي يتعامل مع الأطفال بوصفهم ضحايا سلبيّين؛ أي: غير قادرين على اتخاذ القرار، ولا التعبير عن رأيهم. وكذلك بوصفهم مُجرَّمِين بإجبار الجماعات المسلَّحة إيّاهم على الانضمام إليها ومباشرة أعمال العنف والاعتداء والقتل، وحمل الأمتعة والعتاد، والتنظيف وما إليه من أعمال غير قتالية؛ مما يجعلهم يُصنَّفون بوصفهم مُجرَّدين من طفولتهم!
كذلك ألقت الضوء على أنّ الجهات المعنية بإنفاذ حقوق الطفل وفق اتفاقية حقوق الطفل الدولية 1989م، والقانون الدولي الإنساني المتجذّر من اتفاقيات جنيف الأربع عام 1949م وبروتوكولَيها الإضافيين، تُعنَى بأمرين: حماية الأطفال من انتهاك حقوقهم في النزاعات المسلّحة، ودعمهم باستعادة حقوقهم، ورعايتهم، ومعالجتهم في حال وقوعهم تحت الانتهاك؛ وعليه، فالطفل يُعامَل على أنّه لا يَمتلك الوعي الكافي في التعبير عن نفسه، واتخاذ القرارات تجاه الصراعات التي خاضها، والصدمات التي تلقّاها في ظروف النزاعات المسلّحة؛ مع أنّ المدوَّنات السردية التي نُشرت لأطفال عايشوا صدمات الحرب وشاركوا فيها -حتى وإن كتبوها بعد بلوغهم- كشفتْ وعيًا عميقًا لدى أولئك الأطفال، وقدرةً على فهم العالم من زاويةٍ معينة، واتخاذ القرار بأنْ يكونوا فاعِلين في الحرب؛ كأنْ يختار الطفل أن يكون مُجَنَّدًا؛ ليوفّر لأسرته قُوتَها، أو ليحميها، أو يستجيب بالقيام بأعمال عُنفٍ واعتداء؛ ليحمي الأطفال المهدَّدين الآخرين، أو لِيَجِدَ وضعًا آمنًا أو أقلَّ ضررًا بطريقةٍ ما! وكذلك اتخاذ القرار بأن يكون رافِضًا، أو هارِبًا، أو مُستَمتِعًا بأبسط ما يتوفّر له من إمكانيات الحياة! وهو -في كل ذلك- يبدو مُتقِنًا لمهارات التمسّك بالحياة!
خلاصة ما ناقشته بيرنتس أنّ السير الذاتية ومذكرات الحرب والصدمات التي كتبها أطفال -ولو بعد بلوغهم سنّ الرُّشد- عن معايشتهم النزاعات المسلّحة في طفولتهم، ونالت شهرةً وإقبالاً واسِعَين لدى البالغين، تُمثّل مادةً قويةً وعميقةً ومُؤثّرةً في كشف فَهْم الأطفال، وتفسير سلوكياتهم، ومشاعرهم، وأفكارهم؛ بوصفهم واعِين بالنزاعات المسلّحة وتهديدها حياتَهم وحياةَ مَن معهم وحولهم، وأنهم قد امتلكوا مُؤهّلاتٍ معينةً للقيام بأفعالهم التي يسردونها؛ مما يعني -في نظرها- أنّ أصواتهم مُغيَّبَة في أرض الواقع لدى الجهات التي تُعنَى بحمايتهم ودعمهم، وغير مَسموعة حين يَروُون الأهوال التي عايشوها أوقاتَ إنقاذهم ومعالجتهم بحُكم أنّ البالغين أدرى بمشاعرهم وبما يُلائم معالجتَهم وتأهيلَهم؛ وعليه فإنّ تحليل تلك الكتابات سيُساعد في فهم تفكير الأطفال ووسائلهم في التكيّف مع مخاطر النزاعات المسلّحة من أجل النّجاة أو التمسّك بأطراف الحياة؛ الأمر الذي سيُسهِم في تحسين اتجاهات الجهود الرسمية في توفير احتياجات الأطفال أثناء الصراعات المُسلّحة وبعدها.
بدا لي هذا الموضوع مُهِمًّا ومُستَحِقًّا لأنْ يكون مجالاً من المجالات البحثية في دراسات تحليل الخطاب القانوني الدولي الإنساني بخاصة، والدراسات التحليلية البراغماتية التي تمتلك القدرة على تكوين مقارباتٍ منهجيةٍ ذات منطلقات قانونية، وأدبية، ونفسية، واجتماعية، وإستراتيجية، وسياسية... إلخ، يُمكن أنْ تُسهِم بشكلٍ جادّ في استدامة تطوير السياسات، والبرامج، والمبادرات الخاصة بحماية الأطفال تحت النزاعات المسلّحة، ومعالجتهم، وتأهيلهم؛ وذلك باستثمار تجربة مشروع إعادة إدماج الأطفال المرتبطين سابقًا بالنزاع المسلَّح (كفاك) بالجمهورية اليمنية؛ الذي أطلقه مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية من محافظة مأرب في التاسع من سبتمبر 2017م، ويهدف مشروع (كفاك) "إلى إعادة تأهيل عددٍ من الأطفال الـمُجَنّدِين والـمُتأثّرين في النّزاع المسلّح باليمن، من خلال إدماجهم بالمجتمع، وإلحاقهم بالمدارس ومُتابعتهم، إضافةً إلى تأهيلهم نفسيًّا واجتماعيًّا، وإعداد دوراتٍ بهذا الخصوص لهم ولأُسرهم؛ ليُمارسوا حياتَهم الطبيعية كأطفال... كما يهدف المشروع إلى توعية أولياء أُمور الأطفال بمخاطر التّجنيد لهذه الفئة، والعمل على إيجاد بيئةٍ أُسريّةٍ سليمةٍ من خلال عقد الدورات التوعوية والتثقيفية، والتعريف بالقوانين التي تُجرّم تَجنيد الأطفال". وقد بلغ عدد المستفيدين الـمُباشِرين من الأطفال منذ بداية المشروع (530) طفلًا مُجنَّدًا. وأمّا عدد المستفيدين غير الـمُباشِرين من أولياء أمورهم، فقد بلغ عددهم (60.560) شخصًا منذ بداية المشروع (https://ksrelief.org/Programs/Child ).
يُمثّل مشروع (كفاك) مادةً موثوقةً وثريةً للدراسة، والتحليل، وبناء سياسات، ومبادرات، وإستراتيجيات فاعلة؛ للأسباب الآتية:
1) ضمان نزاهة المشروع والجهة القائمة عليه؛ إذ هدفها الرئيس إعادة إدماج الطفل المرتبط سابقًا بالنزاع المسلَّح في المجتمع، دون أيّ أهداف أخرى تتعارض مع حقّ الطفل في الاحتفاظ بمُعتقداته، وثقافته، وانتمائه؛ أي: الاحتفاظ بهويّته الأصل.
2) ضمان حصانة الأطفال المرتبطين سابقًا بالنزاع المسلَّح من الحُكم عليهم، أو تصنيفهم، أو تجريمهم؛ مما يُساعد في توثيق مزيدٍ من قصصهم عن صدمات الحرب والنزاعات المسلّحة مصحوبةً بتحليلاتهم، وتفسيراتهم، ورُؤاهم الخاصة.
3) ضمان موثوقية قصص الأطفال المرتبطِين -سابقًا- بالنزاع المسلَّح؛ إذ إنّها محفوظة في سجلات خاصة، تضمن خصوصية الأطفال، وتعكس تجربة الطفل الخاصة، ووَعيَه الخاص، وخياراته الخاصة، دون تدخُّل البالغين في رؤيته وروايتهِ تجربتَه في صدمات الحرب والنزاعات المسلّحة.
4) ضمان متابعة اتجاهات الاستجابة لدى الأطفال المرتبطين -سابقًا- بالنزاع المسلَّح للسياسات، والمبادرات، والإستراتيجيات، ولا سيما مدى التزام أولئك الأطفال المؤهَّلين بعدم إغراء أقرانهم بخوض تجاربهم، وعدم انتكاسهم إلى الارتباط بالنزاع المسلَّح من جديد.
5) الحفاظ على التزام الباحثين والمحلّلين بالأخلاقيات العلمية، والإسهام في تطوير منظومة حماية حقوق الطفل في النزاعات المسلّحة، ودعمه، وتأهيله، وإعادة إدماجه في المجتمع بوصفه عضوًا مُساهِمًا في التنمية الوطنية.
ولإنجاح الاتجاه نحو ذلك المجال البحثيّ، يمكن تخصيص وحدة مركزية داخل اللجنة الدائمة للقانون الدولي الإنساني بالمملكة العربية السعودية؛ تُصمّم الخطة الإستراتيجية لهذا المشروع، وتُشرف على تنفيذها، وتُنسّق علاقات المستفيدين، وتُنظّم منجزاتهم، وطُرُق الاستفادة منها على أوسع نطاق وأحدثه.
"هيلين بيرنتس (Helen Berents): باحثة حاصلة على زمالة جائزة الاكتشاف للباحثين الشباب (DECRA) في مجلس البحوث الأسترالي، وأستاذ مشارك في معهد العدالة بكلية الحقوق في جامعة (Queensland) للتكنولوجيا في أستراليا".
المراجع
Berents, H. (2019). "This is my story": Children's war memoirs and challenging Protectionist discourses. International Review of the Red Cross (Children and war) 101(911), 459-479. https://doi.org/10.1017/S1816383120000120